قمة دول الخليج العربي وآسيا الوسطى..

ميلاد تكتل اقتصادي عالمي جديد

تحليل – إبراهيم الشمري

تأتي قمة جدة بين دول مجلس التعاون الخليجي، ودول وسط آسيا الخمس “أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان، قرغيزستان، كازاخستان”، في توقيت بالغ الحساسية في ظل مخاض نظام عالمي جديد، وما يشهده العالم من توترات وصراعات، بما يضفي على هذه القمة أهمية استراتيجية بالغة بالنظر للوضع الدولي الصعب الذي يوجد سبباً منطقياً لبحث الجانبين عن تلبية المصالح طويلة الأجل لكلا المنطقتين، من خلال العمل المشترك للحد من التوترات الإقليمية والدولية، وتعضيد التعاون والتنسيق على مختلف الأصعدة، فضلاً عن الاهتمام بتعزيز العلاقات الاقتصادية خصوصاً في قطاعات الاستثمار والتجارة والطاقة والسياحة.

وتتشارك دول الخليج العربي مع دول آسيا الوسطى في العديد من القواسم المتشابهة، لا سيما تباين المساحة والتكامل والترابط السياسي والاقتصادي، بجانب وفرة الموارد والطاقة، فضلا عن الهجرات المتبادلة بين شعبي المنطقتين منذ القرن الهجري الأول، وما ترتب عليها من انصهار اجتماعي وثقافي، ما يجعل لانفتاح المنطقتين على بعضهما أبعادً استراتيجية وجيوسياسية واقتصادية بالغة الأهمية تسهم في ميلاد تكتل اقتصادي عالمي جديد يعود بالنفع على شعوب هذا التكتل.

وتشكل دول الخليج لدول وسط آسيا مصدراً آمناً للاستثمار والانفتاح الإيجابي، حيث لا ترتبط دول الخليج مع وسط آسيا بحدود مباشرة أو فضاءات أيدولوجية مثل دول الجوار لوسط آسيا التي ربما يكون لها حسابات خاصة في تلك المنطقة، وبالتالي تصبح دول الخليج مصدراً للثقة والارتباط الاقتصادي وتبادل المصالح السياسية والاستراتيجية.

في المقابل تنظر دول الخليج العربي لوسط آسيا على أنه مستقبل الاقتصاد العالمي لما تملكه من ركائز وقدرات بمنطقة أوراسيا، وما تتمتع به من وفرة الموارد خصوصاً في بحر قزوين، حيث الاحتياطات الهائلة من الطاقة والمعادن وإمدادات الغاز والطرق الاستراتيجية تجاه الصين وكذلك البحر الأسود والبحر المتوسط، وأيضا باتجاه الخليج العربي والمحيط الهندي.

وتحفل أجندة قمة جدة بملفات عديدة وخطط عمل تعد بمثابة مرجعية تؤسس عليها مرحلة جديدة من العلاقات المزدهرة بين الجانبين، تدعهما محفزات الشراكة الموسعة، وتعزيز التعاون في مجلات التجارة والنقل والتكنولوجيا، والتفاعل الحضاري والثقافي والسياحي في جوار استراتيجي آمن، لينبض قلب العالم الآسيوي بالرخاء.

وتمضي خطوات التلاحم بين المنطقتين الاستراتيجيتين الخليجية والآسيوية الوسطى، بوتيرة متسارعة، فدول الخليج ترغب في آسيا وسطى تنعم بالاستقرار والأمان والازدهار، لكي يلعب الطرفان أدواراً متكاملة في توفير الأمن والسلام والصداقة ودفع عجلة التنمية.

مصالح مزدهرة

تعتبر دول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، من أوائل الدول التي طوّرت علاقاتها بدول آسيا الوسطى، انطلاقاً من الروابط التاريخية بين العرب وشعوب تلك المنطقة الاستراتيجية الهامة التي هي امتداد طبيعي لمنطقة الخليج، لذا تعد قمة جدة “تاريخية”، وترسم شكلاً جديداً للتعاون الأقاليمي بين منطقتين غاية في الأهمية من حيث الموارد والجغرافيا.

وتهتم السعودية ودول الخليج بتطوير التعاون مع دول وسط آسيا، كضرورة للجانبين استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، وتحقيقاً لاعتبارات واقعية لا سيما مكافحة الإرهاب والاستثمارات والتعاون الاقتصادي الذي من المأمول أن يحقق قفزة تنموية كبرى  للجانبين.

وتتعمق الرؤية الخليجية للجمهوريات الإسلامية الخمسة، مع وفرة مواردها الزراعية والمعدنية والنفطية والاستهلاكية التي تعد بمثابة عوامل مثالية للاستثمار من قبل دول الخليج فيما يخدم شعبي ومصالح الجانبين، لا سيما التشارك في التعاون الصناعي وفي مجالات الطاقة، والتقنيات الكهربائية والكيميائية ، وفي مجال والمنسوجات ، ومجال الأدوية، وغيرها.

وسعت السعودية ودول الخليج إلى مأسسة التعاون مع تكتل آسيا الوسطى، من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي وتطوير البرامج في مجالات الثقافة والترجمة والمؤسسات التعليمية، وإقامة المعارض الثقافية المشتركة، والمهرجانات الفنية، ومعارض الكتب، وتشجيع إقامة الروابط بين مراكز البحوث والدراسات والمراكز العلمية، وتبادل الطلاب والمنح الدراسية.

ويأتي ذلك في الوقت الذي توفر خلاله الأسواق الخليجية ميزات تنافسية لدول وسط آسيا، من خلال وفرة الفرص الاستثمارية والمشروعات المشتركة في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية وبما يسهم في توفير احتياجات السوق المحلي والتصدير بمزايا تفضيلية لعدد كبير من الأسواق الإقليمية والعالمية.

اهتمام إقليمي وعالمي

أثارت قمة جدة بين تكتلي الخليج ووسط آسيا اهتمام جميع الأوساط الخليجية والعالمية، كحدث بالغ الأهمية يحمل في طياته تحقيق مصالح استراتيجية للجانبين وعبورهما للتحديات المشتركة، لما توفره القمة من مصالح مشتركة تسهم في إزالة القلق المشترك من تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية.

وتحمل القمة بشريات عديدو بشأن التعاون في مشاريع تسهم في تفعيل ثروات وسط آسيا وإزالة الضغوط الاقتصادية التي تواجهه دولها الخمس، في الوقت ذاته تعود خلاله بالنفع على دول وشعوب الخليج، بخاصة المشاريع في مجال الطاقة والبتروكيماويات، وربما تنشيط السياحة الخليجية في آسيا الوسطى.

كما تتجه الأنظار إلى التبادل الاستثماري وإمكانية تحول بلدان آسيا الوسطة إلى سوق تستقبل الصناعات السعودية والخليجية ذات الجودة العالية، مع استقبال الأسواق الخليجية لمنتجات الوسط الآسيوي.

وبجانب الشق الاقتصادي، تتجسد نظرة جديدة للقمة من نافذة التعاون الثقافي لإزالة الصورة النمطية عن المسلمين في مخيلة الاسلاموفوبيا، مع بناء صورة مزدهرة للمسلمين يترجمها تلاحم المنطقتين اللتين لطالما شكلتا وصلاً ثقافياً منذ فجر التاريخ.

وتنظر الدوائر التحليلية للقمة من نافذة موازنة نفوذ القوى الإقليمية في الوقت الذي باتت خلاله آسيا الوسطى مسرحاً للتنافس بين القوى الكبرى، حتى إسرائيل باتت تهتم كثيراً بتوسعة مصالحها في تلك المنطقة، بما يضفي أهمية كبرى للشراكة الاستراتيجية بين الخليج والجمهوريات الإسلامية الآسيوية كحدث كبيراً له تأثيرات بالغة العمق على المستوى الجيوسياسي في المشرق بأكمله، بما يجعل قلب العالم الأوراسي ينبض في جسد ممتد إلى الخليج العربي، ويد ممتدة بالاستثمار والتنمية والتعليم والثقافة.

إصلاحات ومستقبل واعد

باتت دول آسيا الوسطى تتمتع بتنوع اقتصادي كبير بعد حزمة ضخمة من الإصلاحات الاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية التي جعلت من هذه المنطقة أكثر قوة واستقراراً، لا سيما بإطلاق عشرات الآلاف من المشاريع الجديدة، ففي أوزباكستان وحدها جرى إطلاق حوالي 100 ألف مشروع جديد خلال العام الماضي فقط، وارتفعت الاستثمارات الأجنبية في هذا البلد إلى 10 مليارات دولار، وبما يعادل 3 أضعاف ما كانت عليه في عام 2017م.

كما عملت دول آسيا الوسطى على الارتقاء ببيئة التجارة الخارجية والمنافسة إلى مستوى جديد ودخول أسواق جديدة، فضلاً عن إجراء إصلاحات جذرية لقوانين الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بما أسهم بشكل كبير في جذب رؤوس الأموال والمستثمرين الأجانب لدول هذه المنطقة، والاستفادة المثالية من مواردها الطبيعية.

هذه الإصلاحات أيضاً.. تعطي إشارة قوية للسعودية ودول الخليج حول التزام دول آسيا الوسطى بالإصلاح، الأمر الذي يوفر الفرص الواعدة لتبادل الاستثمارات بين الجانبين بزخم كبير، في الوقت الذي تدعم خلاله الرياض تجارب التنمية الاقتصادية الواعدة وجهود مكافحة الفساد وتطوير الإنسان ونشر السلام، فهذه هي السمة السائدة في المشاريع السعودية الخارجية المشتركة مع دول العالم.

وتزداد أهمية هذه الإصلاحات بالتزامن مع تنفيذ السعودية لرؤيتها “رؤية السعودية 2030” يقودها ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، التي توجد المحفزات اللازمة لتبادل أسس التنمية الاقتصادية والفرص الاستثمارية سواء في دول الجوار أو جوار الجوار.

وتفتح التجربة السعودية آفاق التعاون للاستفادة من نجاحها اللافت على مختلف الأصعدة، للاستفادة منها في الشراكة مع اقتصادات وسط آسيا، وتنفيذ مشاريع كبرى وتطوير رؤية خاصة لأوزباكستان وربط برامجها السياسية والاقتصادية مع رؤية السعودية ودول الخليج الاقتصادية، بجانب دفع التعاون السياحي والعروض الثقافية.